من سنن الله تعالى فى خلقه وقوع الفتن والشدائد والابتلاءات التى تمتحن صبر الناس وإيمانهم وتمسكهم بحبل الله المتين والسير على صراطه المستقيم مهما اشتدت بهم الفتن وتعقدت الأمور، وقد اعتادت الشعوب والجماهير عبر التاريخ أن تهرع إلى أهل العلم والرأى من العلماء والمفكرين لمعرفة رأيهم فى كيفية الخروج من الأزمات والفتن، ليأخذوا بأيديهم إلى جادة الصواب بما علموا من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عليه السواد الأعظم الذى دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التمسك به فى وقت اشتداد الأزمات والفتن، فقد روى ابن ماجه عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ أُمَّتِى لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ اخْتِلَافًا فَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ».
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى بقوله: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِى الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ) وقال تعالى (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)
فالعلماء الربانيون هم أمنة هذه الأمة وسبب نجاتها عند اشتداد الفتن واضطراب الأمور، وأوضح مثال على ذلك ما وقع بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من اضطراب للأمور وذهاب للعقول واهتزاز للقلوب فقد توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتقى إلى الرفيق الأعلى وكانت هذه أشد فتنة على أصحاب رسول الله لم يسلم منها حتى الصحابى الجليل عمر بن الخطاب رضى الله عنه، لكن الله تعالى استنقذ هذه الأمة بكلمة قالها الصديق رضى الله عنه وهى وإن كانت بسيطة سهلة إلا أنها تنبع من قلب سليم وعقل مستنير ومعرفة راسخة بثوابت الإسلام (أيها الناس من كان يعبد محمد فإن محمدًا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت).
هذه عبارة واحدة لكنها اسنقذت أمة كاملة من الوقوع فى تيه الوهم وظلام الفتن، وتصدى سيدنا على ابن أبى طالب لفتنة الخوارج الغاشمة حتى طهر الأمة منهم، وهذه هى حقا وظيفة العلماء الذين هم ورثة الأنبياء أن يظهروا للناس حقائق الأمور بما أخذ الله عليهم من عهد وميثاق كما قال الله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ)...
وفى عصرنا هذا نرى أنَّ أشد فتنة مرت بالأمة هى فتنة تيارات الإسلام السياسى التى ابتعثت منهج الخوارج من تحت ركامه البائد، لتكفر الناس وتستحل دماءهم وتعمل على تقسيم الأوطان وإغراقها فى الفتن يفعلون ذلك باسم الإسلام تحت مسميات وشعارات مختلفة، وتبنت هذه الجماعات المتطرفة منهجا فى غاية الخطورة والالتواء والعنف، وهذه الجماعات تزخرف أفكارها الخبيثة ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وبعض الأقوال الفقهية المنتزعة من سياقها التاريخى والموضوعى، ولا شك أن هذا التلبيس هو سبب خفاء أمرها أو التباس حقيقتها على بعض العوام والمثقفين، ومن هنا فقد وجب على أهل العلم الراسخين فيه أن يظهروا للعامة وللخاصة فساد مسلك هذه الجماعات بتفكيك شبهاتهم وبتفنيدها وبالرد عليها وكشف تلبيسهم وتزويرهم (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله).
وقد يتعجب الإنسان من موقف بعض من تعاطفوا مع جماعات الضلال هذه على الرغم من إقرارهم بفساد منهجهم وخروجهم عن جادة الصواب، ومثلهم هؤلاء الذى قالوا إن اعتزال الفتنة واجب فنحن لسنا مع الوطن ولا مع الجماعات نحن على الحياد بين بين، وعلينا اعتزال الفتنة وعدم الإدلاء بالرأى.
ولا شك أن عدم الانحياز للوطن فى وقت الأزمات خيانة واضحة لا تليق بعامى ولا بعالم، وهذا مسلك عجيب، فاعتزال الفتنة قد يكون أمرا مقبولا مبررا بالنسبة للعامى الذى لا يدرك ولا يعلم، أما العالم فوظيفته كما فعل أبو بكر رضى الله عنه فى فتنة ارتداد الناس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما فعل الإمام على رضى الله عنه فى فتنة الخوارج، ولولا ثبات هؤلاء الصحابة وصدعهم بالحق لتغيرت كثير من معالم الدين، ولالتبس على الناس الحق بالباطل، وفى فتنة جماعات الخوارج المعاصرة الذين أردوا إشاعة الفوضى باسم الدين كان لعلماء الأزهر الشريف مواقف مشرفة فى هذا الصدد كان من أبرزها وأقواها موقف الأستاذ الدكتور على جمعة عضو هيئة كبار العلماء، فقد جهر بالحق وأظهر فساد منهجهم وخبث نوايهم وفند شبهاتهم ورد عليها فى أكثر من موقف وما كان منهم إلا أن قابلوا حجته بزخات الرصاص الغادرة الخسيسة أثناء سيره لأداء شعيرة من شعائر الله تعالى وهى صلاة الجمعة فنجاه الله تعالى مما مكروا بكرامة ظاهرة لا يشك فيها إلا جاهل، هؤلاء هم الخوارج لا حجة لهم ولا دليل إلا التكفير وإزهاق الأرواح وقتل الأبرياء، وسيظل علماء أهل الحق يجهرون به وينيرون للناس طريق الحق والخير مهما كلفهم ذلك لا يبتغون إلا وجه الله تعالى متمثلين قول الإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنه عندما طلب منه أن يسكت فى وقت الفتنة ولا يظهر الحق فقال مقالته الخالدة: إذا تكلم العالم تقية والجاهل يجهل فمتى يعرف الناس الحق.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة